بـ ١١١ صوت ثقة خرجت حكومة الرئيس سعد الحريري في اليوم الثالث من جلسات مناقشة بيانها الوزاري، مقابل ٦ نواب صوتوا ضد (أسامة سعد، جميل السيد، بولا يعقوبيان، سامي الجميل، نديم الجميل، الياس حنكش). وبعدَ أن كان من المفترض أن تمتد جلسة الثقة إلى اليوم بسبب مطولات النواب التي لا تقدّم ولا تؤخر، انتهت المناقشة في الجولة الخامسة بعدَ جلسة استمرت أكثر من ٨ ساعات... ختمها الحريري رداً على مداخلات النواب بالدفاع عن المصارف و«سيدر»

ليسَت هي المرة الأولى التي يقِف فيها النواب على مِنبر الهيئة العامة لمناقشة البيان الوزاري، وفتح الملفات، والمطالبة بحكومة أفعال لا أقوال. ولن تكون المرة الأخيرة التي سيجلس فيها رئيس الحكومة مُحاطاً بوزراء حكومته، مُستمعِاً إلى مطولات في الأخلاق والعفة والوطنية، وهو العارِف بأن الثقة مضمونة في جيبه.

هكذا تعامل الرئيس سعد الحريري خلال الجولة الخامسة أمس في ساحة النجمة، مُتحدّياً الملل من كلمات النواب بتضييع الوقت، إما بالتسامر مع أصحاب المعالي والسعادة، وإما بالخروج والدخول المتواصِل من القاعة وإليها. فكان مع كل «ثقة» من نائب إضافي يرخي جسمه على الكرسي، قبَل أن ينال منه السأمُ، فيلتجئ إلى الرئيس نبيه بري بعد حوالي ثلاث ساعات من بدء الجلسة للاستفسار عن عدد النواب «طالبي الكلام». حتى رئيسة كتلة «المستقبل» بهية الحريري تدخلت للمساعدة في تقليص العدد، فالجميع بدأ يضجر. حتى هذه اللحظة كان لا يزال الحريري ضاحكاً في سره على كلام المنابر الذي لا يقدّم ولا يؤخر، إلى أن حصل سِجال بينه وبين النائب جميل السيد على خلفية كلام للنائب سامي فتفت. لولا هذه «الخناقة»، لم يكُن الحريري آبهاً بكل الكلام عن الفساد والوضع المهترئ وتقصير الحكومة السابقة. صار الرجل يفهم اللعبة. فلا ضيرَ إذاً من ترك الآخرين يسترسلون في الهيئة العامة للتنظير، ما دامت الكلمات لن تؤثر في عدد مانحي الثقة وحاجبيها. وقبل التصويت، اعتلى الحريري المنبر، ليرد على النواب، فإذ به يتلو ما يمكن وصفه بـ«البيان الوزاري الحقيقي»:
1- دافَع عن المصارف، ورسم خطاً أحمر يحول دون مطالبتها بالمشاركة في كلفة الخروج من الأزمة، إلا بعد إجراء «إصلاحات» يتحمّل كلفتها، بطبيعة الحال، ذوو الدخل المحدود والمتوسط. وقطع الطريق على الدعوات إلى التفاوض مع المصارف لخفض الفوائد (خفض كلفة الدين العام) بالقول إن أسعار الفوائد تحدّدها السوق لا الحكومة!
2- دافع عن قرارات وشروط «سيدر»، مطالباً المجلس النيابي بالبديل في حال لم يوافق على «سيدر»، مدلياً بكلام لا يُفهم منه إلا أنه يطلب ثقة «المجتمع الدولي» لا ثقة النواب، إذ قال: «من يرى الفرصة في غير برنامج الحكومة ليتفضل ويعطي البديل، ومجلس النواب يملك قراره ويستطيع أن يقول أن برنامج الحكومة غير نافع. لنذهب إلى برنامج آخر، ليس لدي أي مانع. ونستطيع أن نقول للمجتمع الدولي والأشقاء العرب: «لا تؤاخذوننا»، برنامج سيدر لا يناسبنا. لكن الحكومة وأنا نرى الفرصة بما طلبنا الثقة على أساسه»؛
3- كشف الحريري مصدر ما يسميه «إصلاحات» اشترطها الدائنون في مؤتمر «سيدر»، قائلاً إنها «الإصلاحات التي يطالب بها القطاع الخاص اللبناني منذ سنوات...». هذه العبارة في «البيان الوزاري الحقيقي» للحريري لا تحتاج إلى الكثير من التفسير. كل الإجراءات التي ستُقدَّم إلى اللبنانيين بصفتها إصلاحات هدفها تحسين أوضاعهم ليست سوى شروط طالبها بها ما سمّاه رئيس الحكومة بـ«القطاع الخاص»، أي أصحاب المصارف وكبار المودعين و«الهيئات الاقتصادية» الذين راكموا الثروات في سنوات الأزمة، ويريدون اليوم أن يدفع ذوو الدخل المحدود والمتوسط كلفة الخروج من الأزمة؛


4- سعى الحريري إلى التبرؤ من المسؤولية عن كل ما ارتُكِب في السنوات الماضية، فذكّر الحاضرين بأن غالبيتهم شركاء له في الحكم منذ 14 عاماً.
حالُ جلسات الثقة عبّر عنها النائب علي عمار في كلمته حينَ قال أن النواب في القاعة نوعان: «نوع يرى فيها مسرحاً للشهرة يجعله محل مديح وثناء. ونوع يتحدث مع الناس باللغة التي يريد الناس سماعها حتى لو كانت قاسية». وفي الحقيقة أن أغلب النواب هم من النوع الأول الذي يستغل هذا المنبر لتسجيل مواقف وكأنه من كوكب آخر خارج الكتل السياسية المشارك أغلبها في عملية تدمير البلد. لكن كلمة عمار استرعت أمس انتباه الجميع، علماً أن التفاعل معه سلباً أو إيجاباً كان «على القطعة». فمثلاً، الوزيرة شدياق صفقت له حين قال إن «من يظن بأنه قادر على إلغاء الآخر فهو واهم»، ثم عادت وأغلقت أذنيها عندما صاح مستذكراً شهداء المقاومة.
جلسة الثقة يوم أمس وهي الأخيرة (بعدَ إصرار من الرئيس بري على إنهائها) أظهرت بأن غالبية النواب «طلعت روحها وبدها الصرفة». وحدها مداخلة رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد، وكلمة النائب علي عمّار، حرّكت الجو. الجلسة استؤنِفت عند الساعة الثالثة بغياب لافِت لعدد من النواب، وأكثر من نصف الحكومة. أبرز ما فيها كان اجتماع جانبي ضمّ رعد والنواب حسن فضل الله وأمين شري وأنور جمعة مع النائبين إبراهيم كنعان وآلان عون. اتضح بعدها بأن الأخيرين كانا يقومان بوساطة لحلّ تداعيات ما تحدث به زميلهم نواف الموسوي رداً على النائب سامي الجميل. في هذه الأثناء لوحظ غياب نواب القوات والكتائب عن الجلسة بعد نحو نصف ساعة من افتتاحها. فجأة دخل هؤلاء معاً، قبل دقائق من موقف أطلقه رعد قال فيه «في الجلسة السابقة حصل سجال غير مرغوب به بين بعض الزملاء تجاوز الحدود المرسومة في التعبير». وأضاف: «أستميحكم عذراً يا دولة الرئيس، وأطلب شطب الكلام من المحضر». فقابله النواب والوزراء جميعهم بتصفيق حار، لا سيما الوزيرة شدياق، وما إن أنهى رعد كلامه حتى غادر نواب كتلة الكتائب القاعة مجدداً.
وكان واضحاً أن عون وكنعان يسعيان إلى إظهار تكتلهما في موقع «حاضن الكل»، حتى خصومهم في السياسة. فبعدَ أن أنجزا وساطتهما، أكد عون في كلمته «رفض التعرض لشخصية سياسية تعتبر مقدسة عند شريحة من اللبنانيين»، لافتاً إلى أن «الرئيس ميشال عون وصل إلى بعبدا بإرادة ناسه بالدرجة الأولى ومن ثم دعم حلفائه». أما كنعان، وبعدَ أن أثنى على موقف رعد قال: «إن كان هناك من ثلاثية تطرح فهي الإصلاح ثم الإصلاح ثم الإصلاح».


كلمات النواب الذين تحدثوا كانت نسخة طبق الأصل عن كلمات زملائهم في الأيام الماضية. نقاش في أزمات الكهرباء والمياه والأدوية والصناعة والزراعة واللاجئين والفساد وسرقة المال العام. الملاحظات الجانبية وحدها التي بإمكانها أن تلفت النظر. كأن يجلس مثلاً وزير المهجرين غسان عطالله الذي أثار تعيينه حفيظة رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط، جنباً إلى جنب مع النائب الاشتراكي هادي أبو الحسن ويتبادلان الحديث. أو يُرصد رئيس تكتل «لبنان القوي» وزير الخارجية جبران باسيل للمرة الأولى جالساً في مقاعد النواب. وللمرة الأولى أيضاً لم تكُن بين يديه مجموعة ملفات يتصفح أوراقها، بل ورقة ملاحظات صغيرة حملها وذهب بها إلى الرئيس الحريري متحدثاً إليه قبل أن يعود إلى مكانه.
من على باب المجلس النيابي استكمل النائب حسن فضل الله ما كان قد قاله خلال كلامه من على المنبر منذ يومين، معلناً قبل الجلسة: «أننا اطلعنا على مستندات ووثائق تدين رؤساء حكومات سابقين تؤدي بكثيرين إلى السجن ونريد من القضاء أن يتحمّل مسؤوليته». وأضاف: «حين تصلني هذه المستندات لن تبقى سراً، وسأكشفها للشعب اللبناني لأن من حقه أن يعرف أين هُدرت أمواله»، مؤكداً أن البلاد «أمام وضع خطير وحسّاس ومشكورة وزارة المالية لأنها أنجزت الحسابات».